بقلم معالي عبد العزيز الغرير
لم يكن القطاع المصرفي، في أي وقت مضى، أكثر تعقيداً وتطوراً مما هو عليه الآن. ففي السابق، كانت الأطر التنظيمية أقل والخيارات المتاحة من الخدمات والمنتجات أبسط مقارنةً مع ما نشهده اليوم. فقد كانت الثقة محوراً أساسياً في علاقة الفرد أو الشركة مع مصارفهم.
وأدى تزايد التعقيدات والتطورات المتسارعة التي شهدها عالمنا إلى تغيرات غير مسبوقة في القطاع المصرفي، بدأت بطفرة في التشريعات المصرفية التي هدفت إلى مواكبة هذه التعقيدات- سواء المرتبطة بأحداث عالمية مختلفة، أو الناتجة عن تسارع وتيرة الابتكار الرقمي، وارتفاع نسبة الخروقات والاحتيال، إلى جانب تهديدات أمن المعلومات والقرصنة الإلكترونية التي بلغت مستويات غير مسبوقة، والكثير غيرها.
وعلى الرغم من أن البنوك ساهمت في تعزيز وإثراء حياة جيل مضى، إن لم يكن جيلين، إلا أن عامل الثقة في القطاع المصرفي بات يواجه تحدياً كبيراً. فقد ازداد التدقيق وبشكل كبير على مصادر التمويل وأصحاب الأموال وأماكن وجودهم.
وبات على العملاء الإجابة عن الكثير من الأسئلة من قبل المصارف التي يتعاملون معها. وأي فشل في إقناع المصارف بنواياهم الحسنة يمكن أن يؤدي إلى إقفال حساباتهم من قبل تلك المصارف لغايات الحيطة والحذر من أي مخاطر مالية محتملة.
بينما على المستوى المصرفي والمؤسسي، ازداد التشديد والتدقيق بشكل كبير، وهو ما كان وقعه وتأثيره أقوى وأكثر حدة. ففي دولة الإمارات، هناك بعض الأعمال التي لم يعد بإمكان المصارف الانخراط فيها بعد اليوم. كما تتميز طبيعة أعمال عدد كبير من الشركات في الدولة، من مختلف الأحجام والقطاعات، بطابع دولي، حيث تعتمد إلى حد كبير على التجارة التي تتطلب مساعدة المصارف لإتمام معاملاتها. وكل ذلك يعتمد على امتلاك المصارف «علاقات مراسلة قوية» مع المصارف الأجنبية، للمساعدة في تخليص معاملات الدفع بالعملة الأجنبية.
وازدادت صعوبة إدارة هذه العلاقات مع مرور الوقت بالنسبة للمصارف العاملة في دولة الإمارات. ويعد ظهور ما يعرف ب «درء المخاطر»، أو قطع الخدمات المصرفية عن فئات محددة من العملاء لتخفيف المخاطر المتعلقة بالمصارف المراسلة، نتيجة مباشرة لذلك.
وفي بعض الأسواق، نجحت المصارف المراسلة الأجنبية في إدارة علاقات المراسلة بطريقة محكمة، وتمكنت من إزالة المخاطر وذلك في محاولة لحماية نفسها من أي تداعيات تنظيمية أو عواقب قد تضر بسمعتها. وتعد دولة الإمارات واحدة من تلك الأسواق.
وعلى سبيل المثال، قلصت البنوك الأجنبية العاملة في الدولة ما يقارب 90 بالمئة من علاقاتها مع شركات تعمل في مجال الصرافة، وبعض شركات التجارة العامة نتيجة ممارسات «درء المخاطر».
كما اضطرت المصارف المحلية أيضاً إلى تجنب معاملات محددة، وخاصة عندما تكون مقوّمة بالدولار. وقد أثر ذلك بشكل خاص على الشركات الصغيرة والمتوسطة، وسوق العمل، وإلى حد ما على الاقتصاد ككل.
ويمكن أن يكون لعملية «درء المخاطر» آثارٌ جانبية أخرى، حيث يمكن أن تؤثر تلقائياً في أنواع أخرى من المعاملات المشروعة وأنشطة الشركات، ليس فقط في القطاع الخاص، بل أيضاً في المؤسسات الحكومية.
هذا الوضع بالطبع لن يستمر طويلاً. فباعتبارها محوراً تجارياً رئيسياً ومنفذاً مهماً لتسهيل التجارة العالمية، لا بد لدولة الإمارات من امتلاك القدرة على المنافسة بانفتاح وفعالية. ولكن، ما الذي يمكن القيام به للتأكد من أن تطبيق «درء المخاطر» سيحقق الهدف المطلوب من دون التسبب في عرقلة الاقتصاد؟
يتمثل العامل الأول في إدراك أن إدارة المخاطر تعد جزءاً رئيسياً من عمل المصارف وتقع في صلب فلسفة أعمالها الشاملة. لذا، يمكننا القول بطريقة أو بأخرى إن ممارسات «درء المخاطر» هي بالأحرى نسخة صارمة أكثر من عملية إدارة المخاطر التي تستخدم لمعالجة التغيرات التي تطرأ على مستوى المخاطر. ولا شك بأن النجاح في إدارة المخاطر لا بد من أن يكون على قائمة أولويات كافة المصارف، ولكن لا بد من إجراء ذلك بتوازن حذر.
فعند الإفراط في إدارة المخاطر، سواء كان مفروضاً بشكل مباشر أو غير مباشر، خاصة إذا كان خارج نطاق المعايير المعتمدة داخل أي مؤسسة مالية أو مصرف، فإن هذا الإفراط يتعارض مع أنشطة الأعمال الشرعية وتتوقف العملية عن تحقيق نتائج إيجابية بل وتصبح عائقاً. وتلعب الجهات التنظيمية دوراً هاماً في ضمان سلامة وصحة القطاع المصرفي الذي تشرف عليه، ما يتطلب منها المزيد من الحذر في اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب.
وبالنظر إلى حجم وتنوع التجارة الدولية اليوم، يتضح أن مبادرة «درء المخاطر» في أفضل تقديراتها قد نجحت ولكن بشكل جزئي، كونها تطبق على مستوى عالٍ جداً، لم يتم التركيز على الأمور والعواقب التي قد تنتج عنها. وهذا قد يؤدي إلى تراجع قطاع الأعمال والتمويل، ما ينعكس سلباً على إدارة المخاطر وإرساء بيئة أعمال شرعية ومستدامة.
كما يترتب تسليط الضوء على دور مكاتب الصرافة، التي من الممكن بل وينبغي تطوير لوائحها التنظيمية وأنظمة الإشراف عليها داخل دولة الإمارات. صحيح أن بعضها قد استثمر في برامج تدريبية وورش عمل لمكافحة الجرائم المالية، إضافة إلى اعتمادها إجراءات امتثال فعّالة، غير أن البعض الآخر منها لم يقم بذلك. وبما أن أداء مكاتب الصرافة يُعد مقياساً لنشاط القطاع المالي ككل، فإنه لا بد من تمتعها بأعلى مستويات المهنية والشفافية.
ورغم ما سبق، إلا أنه لايزال هناك بصيص من الأمل، حيث اتجهت بعض الأصوات في الأوساط التنظيمية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى اعتبار أن ممارسات درء المخاطر قد تخطئ هدفها أحياناً، وقد طرحت صحيفة «وول ستريت جورنال» تقريراً في وقت سابق من العام الجاري، أفاد بأن المراقب المالي للنقد في الولايات المتحدة أقر بأن التدابير والقرارات التي من شأنها إنهاء العلاقة مع عدد من المصارف الأجنبية المراسلة خوفاً من غسل الأموال أو المخاطر الإلكترونية، قد تكون لها «عواقب وخيمة».
كما تمت الإشارة إلى أن إنهاء كافة العلاقات المصرفية مع العملاء، الذين لم يتمكنوا من إجراء ترتيبات مصرفية بديلة لدى أطراف أخرى، قد يؤدي إلى عزلهم من النظام المالي بشكل كامل.
وبينما تسعى الدول والمنظمات الدولية لتشجيع الشمول المالي والتجارة العادلة، تمضي عملية «درء المخاطر» حالياً في الاتجاه المعاكس. وفي حين أن القطاع المصرفي في دولة الإمارات قد تأثر بذلك، نحن لا نزال على قناعة بأن سلامة وكفاءة القطاع المحلي تنطوي أيضاً على الحفاظ على استقرار أدائه. وهناك الكثير من العمل الواجب القيام به لإظهار مستوى التقدم الذي أحرزناه في جهودنا نحو اعتماد أفضل الممارسات العالمية، والتأكيد على أنه يمكننا تنظيم قطاعنا بأنفسنا بما يتماشى مع أرقى المستويات العالمية. ونحن على ثقة قوية بأن التقدم الكبير الذي أحرزناه سيحظى بتقدير نخبة من شركائنا التجاريين العالميين.
*رئيس اتحاد مصارف الإمارات