أحدث تعيين "آنا باتريشيا بوتين"خلال فصل الخريف الماضي في منصب رئيس مجلس إدارة "بانكو سانتاندر"، أحد المصارف الرائدة على المستوى العالمي، ضجةً في وسائل الإعلام والأوساط المهنية، ليس فقط لكون هذا القرار مفاجئ وغير متوقع ، بل لأنه سلّط الضوء على ندرة حضور المرأة في المناصب الإدارية العليا في القطاع المصرفي. وأظهر تقريرٌ أصدرته شركة الاستشارات الإدارية العالمية "أوليفر وايمان" في نفس الفترة ويغطي 150 شركة خدمات مالية عالمية أن النساء يمثلن 11% فقط من إجمالي عدد مدراء وحداتالأعمال أو الفروع الإقليمية في المؤسسات المالية، ولم تتجاوز نسبة النساء اللواتي يشغلن منصب الرئيس التنفيذي عتبة الـ 4%. كما بين التقرير أن النساء أكثر ميلاً نسبياً للعمل في مجالات الموارد البشرية والتسويق مقارنة بمجالات العمل الأخرى في القطاع المصرفي.
وعلى النقيض من ذلك، يبلغ عدد الموظفات الإماراتيات العاملات في القطاع المصرفي بدولة الإمارات العربية المتحدة حوالي الـ8000 موظفة، أي ما يمثل 72% تقريباً من إجمالي عدد القوى العاملة الإماراتية في القطاع، وحوالي 43% من عدد القوى العاملة الإجمالي بشكل عام، على الرغم من أن القطاع المصرفي لا يعتبر الخيار المفضّل للنساء العاملات حيث يميل ما يقل عن 5% فقط من المواطنين إلى العمل فيه، بينما تفضل نسبة أكبر العمل في القطاع الحكومي.
ومع ذلك، تتفوق دولة الإمارات العربية المتحدة على دول أخرى من حيث نسبة الكوادر الوطنية العاملة في القطاع المصرفي، وقد شهدت هذه النسبة تحسناً ملحوظاً مع مرور السنين بفضل نظام الحصص الذي وضعته الحكومة للقطاع المصرفي في أواخر تسعينيات القرن الماضي، والذي ساعد على رفع نسبة التوطين في القطاع إلى حوالي 32%.
ويكمن التحدي هنا، كما هو الحال في الكثير من الدول حول العالم، في كيفية تعزيز نسبة النساء اللواتي يشغلن مناصب إدارية عليا ضمن القطاع المصرفي بدولة الإمارات، حيث لا تتجاوز هذه النسبة اليوم 12% فقط. وتعد هذهالنسبة أفضل نوعاً ما مقارنةً مع العديد من الدول، لا سيما في المنطقة، لكنها ليست كافية على أي حال. وإذا ما كانت العديد من المصارف تقوم بتوظيف النساء ضمن فرق عملها، فلماذا لا يحصلن على نفس الفرصة لشغل المناصب الإدارية العليا والقيادية كما هو عليه الحال مع نظرائهن من الرجال؟
قد لا نجد إجابة واحدة عن هذا التساؤل، إلا أنالحل متوفر، أو بالأحرى عدد من الحلول.فمن ناحية، تميل النساء في دولة الإمارات إلى التوقف عن العمل عندما يبدأن بتأسيس عائلاتهن، دون العودة مجدداً إلى سوق العمل. ويتم تداول هذا الأمر بصورة متكررة في وسائل الإعلام والمؤتمرات وبين المخططين الاقتصاديين باعتباره هدراً كبيراً لإمكانات منتجة في الاقتصاد. ويُعزى هذا الأمر بصفةٍ عامة إلى ثقافةٍ عميقة ومتجذرة تنظر إلى مهمة الأم على كونها في المقام الأول ربّة منزل، في حين يشير الواقع إلى أن العائلات الشابة في جميع أنحاء العالم لا تعتمد في هذه الأيام على راتبٍ واحد فحسب بل على راتبين.
ومع ذلك، هناك أسبابٌ أخرىتعيق زيادة نسبة النساء في المناصب الإدارية العليا في القطاع المصرفي. فعلى الرغم من الإيجابيات ونقاط القوة المتعددة التي تتمتع بهاالأحكام الحالية لقانون العمل الإماراتي، فإنهاتوفر إجازة أمومة لا تزيد عن 45 يوماً فقط. وتقوم العديد من الدول بتمديد فترة هذه الإجازة إلى 60 أو 90 يوماً أو أكثر (على سبيل المثال، أعلنت شركة "فودافون" مؤخراً عن سياسة عالمية تمنح بموجبها إجازة أمومة لمدة تتجاوز المئة يوم للنساء العاملات لديها) لضمان حصول الأمهات على الوقت الكافي للتكيف مع ظروف حياتهن الجديدة وتوفير العناية اللازمة لأطفالهن خلال مرحلة هامة جداً، وبالتالي تشجيعهن على العودة إلى أماكن عملهن.وهناك أيضاً خطط لتمديد إجازة الأبوة لنفس الأسباب.
كما توفر المؤسسات في الاقتصادات المتقدمة ظروف عمل مرنة تساعد الأمهات على تحقيق توازن بين مسؤولياتهن العائلية والوظيفية. وقد بدأ عددٌ من المصارف في دولة الإمارات دراسة حلول من شأنها تعزيز مرونة بيئة العمل بالنسبة للنساء، حيث حقق مبدأ تقاسم ساعات العمل نجاحاً نسبياً مع قيام بعض المصارف المحلية بتقديم خيارات بديلة للأم العاملة، تتمثل في العمل بدوامٍ جزئي أو لساعات أقل.
وفي حقيقة الأمر، عادة ما يكون هناك تأثير محدود للظروف المهنية التي تمر بها النساء في القطاع المصرفي، سواء أكان لديهن أبناء أو حتى عندما لا يحصلن على رواتب مماثلة لنظرائهن من الرجال الذين يشغلون نفس المناصب ، على قدرتهن أو طموحاتهن أو حماسهن للوصول إلى القمة.
ويرحب اتحاد مصارف الإمارات بالخطوات التي اتخذتها الحكومة الإماراتية لدعم وتعزيز حضور ومشاركة المرأة في جميع مناحي الاقتصاد، ليس فقط في المناصب المتوسطة والمبتدئة فحسب بل أيضاً في المناصب العليا والقيادية. ويعتبر تأسيس "مجلس الإمارات للتوازن بين الجنسين" من قبل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ، نائب رئيس الدولة - رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي- رعاه الله- لضمان منح المرأة المكانة المستحقة والمميزة في المجتمع وإمدادها بالمقومات التي تكفل لها لعب دور قيادي في الدفع قدماً بمسيرة تطور البلاد، من أهم المبادرات الجديدة التي ستساعد في إيجاد حلول أكثر فعالية للتغلب على هذا التحدي.
كما شهدنا في فترةٍ سابقة من العام الجاري إطلاق حملة مشتركة بين حكومة مملكة البحرين والمجلس الأعلى للمرأة في المملكة، بالتعاون مع مسؤولين وشخصيات قيادية في القطاع المالي والمصرفي، لتعزيز دور المرأة في هذا القطاع،وهي بلا شك خطوة إيجابية ومُرحبٌ بها، ومن شأنها دعم دور ومساهمة المرأة في تعزيز النمو الاقتصادي في المنطقة.
وبعبارة أوضح، يجب علينا بذل ما بوسعنا لكي نحافظ على استدامة هذا المورد الثمين في القطاع المصرفي بدولة الإمارات، وبذل كافة الجهود للاستفادة منه بالشكل الأمثل. وتقوم جميع المصارف الأعضاء في الاتحاد ببذل جهدٍ كبير والاستثمار بشكلٍ واسع في مجال تدريب وتطوير مهارات كوادرها. الا ان فقدان نسبةٍ كبيرة من المستفيدين من برامج التدريب المهني التي تقدمها وتنفق عليها، في الوقت الذي يُفترض فيه أن تسهل عليهم تلك البرامج إرتقاء السلم الوظيفي نحو مناصب أعلى، يبقى من اكبر التحديات.
يأخذ اتحاد مصارف الإمارات مسألة معالجة هذاالتحدي على محمل الجد، ويعمل على إعداد مجموعة من المبادرات المقترحة في هذا الشأن، حيثيسعى لزيادة نسبة حضور المرأة في المناصب الإدارية العليا في القطاع المصرفي بالدولة بنسبة 10%، ما يعزز تفوق القطاع المصرفي الإماراتي على نظرائه في ذلك ويبقى الطموح هو تجاوز كل تلك النسب، بما يتيح الاستفادة من الطاقات الكامنة التي تتمتع بها المرأة من أجل إحداث فارق إيجابي من شأنه تعزيز تطور القطاع ونموه وبالتالي تحقيق التنمية المستدامة.
بقلم معالي عبد العزيز الغرير، رئيس اتحاد مصارف الامارات